سورة المزمل - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المزمل)


        


{يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أيها المزمل}.
النداء هو من الحق جلّ وعلا، إلى رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه، وكان ذلك في أول الدعوة، حيث تلقى الرسول الكريم أمر ربه بأنه رسول اللّه، وذلك في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق.}.
وقد استقبل الرسول هذه الدعوة، استقبال الإنسان لأمر غريب يقع له، مما لم تألفه الحياة، ومما لم يقع له أو لغيره المعاصرين له.، فوقع في نفسه شيء من الخوف، والفزع لهذا الحدث، ولما له من عواقب لا يدرى ما يأتيه منها.. ويروى في هذا أن النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، كان في أول أيام رسالته كلما عرض له جبريل، وناداه من قريب أو بعيد فزع، وكرب وعاد إلى أهله يرجف فؤاده، ويقول زمّلونى، دثرونى.
والمزّمل: أصله المتزمّل، وهو المتلفف في يرد، أو نحوه.
والمزّمل: الحامل الثقال من الأمور، ومنه: الزّاملة، وهى الراحلة التي تحمل الزاد والمتاع، ونحوه.
ونداء النبىّ الكريم، بهذه الصفة التي كان عليها.. وهى المزمل.. هو غاية اللطف، والتكريم والإحسان، من اللّه سبحانه وتعالى.. حيث لا يكون هذا النوع من الخطاب إلا بين متحابين متصافيين، قد زالت حواجز الكلفة بينهما.. وهذا جائز من اللّه سبحانه وتعالى، لأنه هو الملك للأمر كله، يدنى من يشاء ويبعد من يشاء، ويخاطب أحبابه وأولياءه، كما يخاطب الحبيب حبيبه، والخليل خليله.. أما النبىّ، والملائكة، وغيرهم من عباد اللّه المقربين فإنه لا يجوز لهم أن يخاطبوا اللّه سبحانه إلا من مقام العبودية المطلقة لجلال اللّه وعظمته.
{يا أيها المزمل}!! كم وجد الرسول الكريم من سعادة، وغبطة، ورضا.. بهذا الوصف الذي أصبح علما هو آثر الأسماء عنده، وأحب، الصفات إليه؟ وهذا يعنى أن جميع أحوال النبىّ، هى غير أحوال الناس، وأن كلّ حال منها هى علم على النبىّ وحده، حتى ما كان منها في ظاهره مما لا يتمدّح به، هى بالنسبة إليه صفات كمال لا يتصف بها غيره.
وللرسول الكريم وصف وصف به الإمام عليا- كرم اللّه وجهه- حين رآه نائما في المسجد وقد علا جبينه بعض التراب، وكان مغاضبا السيدة فاطمة رضى اللّه عنها، فقال له الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه: قم يا أبا تراب يقول الإمام علىّ: فكان هذا الوصف هو أحبّ ما أنادى به!! وقوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا}.
هذا هو المنادى به النبىّ من قبل اللّه سبحانه وتعالى، بعد أن أوقظ من نومه بهذه اللمسة الرفيقة الحانية، من يد اللطف والرحمة، من ربّ لطيف رحيم.. {يا أيها المزمل} وفى هذه الدعوة، انتقال بالنبيّ الكريم من حال المزمل، والنوم، إلى اليقظة الكاملة، والتشمر للعمل، والقيام له.. {قم الليل إلا قليلا}.
والمراد بقيام الليل، هو اليقظة فيه، يقظة كاملة، واعية عاملة، حتى لكأنه في حال قيام دائم، وإن كان جالسا.
قوله تعالى: {نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} نصفه، بدل من {قليلا} في قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا} وهو بيان لمقدار قيام الليل إلا قليلا منه.. فنصف الليل، إذا قامه النبي، يعدّ منه قياما لليل، إلا قليلا منه، وأقل قليلا من نصف الليل، بعد كذلك من النبي قياما لليل إلا قليلا منه، وكذلك إذا هو زاد في قيامه على نصف الليل.
وهذا يعنى أن أمر النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- بقيام الليل إلا قليلا، هو أمر قائم على اليسر، حسب أحوال النبي، وعلى قدر استعداده في كل حال من أحواله.. ففى ليلة، يقوم الليل كله إلا قليلا، وفى ليلة أخرى، يقوم نصف الليل، وفى ثالثة، يقوم أقل من نصف الليل، وفى رابعة يقوم اكثر من نصفه.. وفى كل هذا، هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- قد أدى غاية المطلوب منه، وهو قيام الليل إلا قليلا منه.
وقوله تعالى: {ورتل القرآن ترتيلا} معطوف على قوله تعالى، {قم الليل إلا قليلا}.
إذ ليس المطلوب هو قيام الليل في ذاته، وإنما المراد هو الذي يصحب هذا القيام، من ترتيل القرآن ترتيلا.. فالواو هنا بمعنى المعية والمصاحبة.. ويجوز أن تكون واو الحال، والجملة بعدها حالية، أي قم الليل مرتلا القرآن ترتيلا.
وترتيل القرآن، هو قراءته في تمهل وتتابع، بحيث تتابع الحروف والكلمات، فيأخذ كل حرف مكانه على الفم من كل كلمة، كما تأخذ الكلمة مكانها من كل آية، حتى ينتظم منها جميعها موكب متحرك في نظام أشبه بنظام حبات الدر في عقدها.. وهكذا كانت قراءة رسول اللّه للقرآن.. عن أم سلمة- رضى اللّه عنها- قالت: «كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. يقطّع قراءته آية آية» وعن أنس- رضى اللّه عنه- قال: «كان يمدّ صوته مدّا» وعن ابن عمر رضى اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وأرق، ورتّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر تقرؤها» ولفظ الترتيل، يحتمل هذه المعاني كلها.. وهو من ترتّل الأسنان، إذا استوت وحسن نظامها، ويقال ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها.
قوله تعالى: {إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا} هو بيان للسبب الذي من أجله دعى النبي إلى قيام الليل، وإلى نزع ثوب الدّعة والسكون.. إنه صلوات اللّه وسلامه عليه- سيواجه- بعد اصطفائه المرسالة- أمرا عظيما، وإنه سيكلف أداء مهمة شاقة، تحتاج إلى أن يبذل لها كل جهده، وأن يقوم عليها في كل لحظة من حياته، ليلا ونهارا.. فهذا القول الذي سيلقى عليه، وهو القرآن الكريم، هو قول ثقيل بما يحمل من تكاليف، هى عبء ثقيل عند كثير من الناس، كما أنها حمل ثقيل على النبي في حملها إلى الناس، ودعوتهم إليها.
إن عهد النوم بالليل قد انتهى! فليوطّن النبي التي نفسه منذ الآن على الجهاد، وحمل هذا العبء، وليأخذ للموقف عدته، وإلّا ضعف عن حمل الرسالة، وأداء أمانة تبليغها، وقد علم أن إخوانه من الرسل، قد أبلغوا رسالات ربهم، وما كان له أن يقصر عنهم، وهو خاتمهم، وسيدهم.
وهذا التنبيه من اللّه سبحانه لنبيه الكريم، بما سيلقاه على طريق رسالته، من صعاب، وما يحمله في سبيلها من أعباء- هو الذي يهيىء النبي جسميّا ونفسيّا للمهمة الخطيرة التي نيطت به، وألقيت عليه.
وقوله تعالى: {إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا}.
اختلف في معنى {ناشئة الليل}.
أهي أول الليل، أو آخره، أو وسطه، أم هى اليقظة بعد النوم.
والذي نميل إليه أن ناشئة الليل هى أوله، حيث يبدأ فيها نشوء الليل، وحيث هى التي يتحقق بها ما دعى إليه النبىّ من قيام الليل إلا قليلا منه، فإنه لو نام الإنسان أول الليل فهيهات أن يضبط الوقت الذي يستيقظ فيه، ومن ثمّ فقد لا يقوم شيئا من الليل، فضلا عن أن يقوم الليل كله إلا قليلا منه.
وقوله تعالى: {هى أشد وطئا} أي أثقل على النفس وأشق، لأن الإنسان يصل بها تعب النهار، الذي يحمل الإنسان على أن يلقى بهذا التعب عند أول الليل، كما يلقى المسافر مشقة السفر عند أول منزل ينزله.. وفى هذه المشقة، مضاعفة الثواب، ودربة على تعوّد المتاعب، ومغالبة منازع النفس وأهوائها.
وقوله تعالى: {وأقوم قيلا} أي أن قيام ناشئة الليل، أكثر فائدة، وأطيب ثمرا.. حيث يكون الإنسان مغالبا لهواه، قاهرا سلطان نفسه، مستعليا على حاجة جسده، وتلك أحسن أحوال الإنسان لتقبل الخير، والإفادة منه.
والقيل الذي مع الرسول الكريم، هو القرآن الكريم، وهو أقوم قول وأعدله، وأكمله، في جميع الأحوال، والأزمان.. لا تتغير ذاتيته، ولا تتعرض صفاته لزيادة أو نقص.. لأنه كامل في ذاته، لا يقبل كما له زيادة، كما أنه لا يقبل نقصا.. لأن الكامل كمالا مطلقا، لا يكون على هذا الوصف إلا إذا تنزه كماله عن التعرض الزيادة أو النقص.
أمّا وصف القيل المراد به القرآن هنا، بأنه أقوم قيلا، أي أسدّ قولا وأنفعه- أما هذا الوصف، فليس لذاتية القول، وإنما هو للأثر الذي يحدثه هذا القول فيمن يتلقاه، ويرتله.. فإن هذا الأثر يختلف باختلاف المتلقّين له، وباستعدادهم العقلي، والنفسىّ والروحي، للفهم عنه، والتجاوب معه.. كما أن هذا الأثر يختلف باختلاف أحوال المتلقّى الواحد، وبتأثر هذه الأحوال بظروف الزمان، والمكان.. فبعض الأزمنة تفعل فيها الكلمة ما لا تفعله في أزمنة أخرى، وبعض الأمكنة، تجعل الكلمة وقعا على نفس متلقيها، لا يجده منها في مكان آخر.. تماما كشأن النبات من الحب والفاكهة، فإن لكل فاكهة ولكل حب مكانا لا يجود إلا فيه، وزمانا لا تنطلق فيه طاقاته وقواه كاملة إلا إذا احتواه هذا الظرف من الزمان.
وأول ما ألقى على النبي من قول ثقيل، هو هذا الأمر التكليفي الذي كلف به من ربه، وهو أن يقوم من نومه، وأن يرفع هذا الغطاء المتزمل به، وأن يقوم الليل كله إلا قليلا منه، ذاكرا اللّه بتلاوة القرآن وترتيله.
ويجوز أن يكون هذا القول الثقيل، هو ما يحمل إليه هذا القول من حمل أمانة تلك الرسالة العظيمة التي يقوم عليها، ويواجه الناس بها، وقد حمل النبي أعباء هذه الرسالة نحوا من ثلاث وعشرين سنة، احتمل فيها ما تنوء الجبال الراسيات بحمله.. ويجوز أن يكون هذا القول الثقيل، هو الوحى نفسه، وما كان يجد النبي من جهد في تلقى كلمات اللّه منه.
هذا، والذين ذهبوا إلى أن ناشئة الليل، هى آخر الليل إنما نظروا في قول اللّه سبحانه: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} وفى هذا تنويه بهذا الوقت- وقت الفجر- وأنه وقت مبارك، تتفتح فيه النفس لتقبل الخير، وتشرق فيه بنور الحق، كما يشرق وجه النهار، ويسفر، حين يطلع الفجر.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا} هى دعوة إلى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى أن يمدّ في قيام الليل، حتى يبلغ الفجر، ليلتقى مع هذا الوقت المبارك المشهود، وإن كان في السهر، ومغالبة النوم ما تشتد وطأته عليه.. ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وأقوم قيلا} ليكون خيرا مرصودا ينتظر النبىّ على نهاية الليل الذي قطعه قياما، وترتيلا، وبهذا يشتد عزمه، وتشتد رغبته في السهر ليلتقى مع هذا الخير الذي هو على موعد معه هناك.. مع الفجر! وعلى هذا التأويل، يكون القول بأن ناشئة الليل، هى آخر الليل، أولى عندنا مما قلناه من أنها أول الليل.. واللّه أعلم.
وقيل إن ناشئة، الليل، هو ما يتجدد فيها من ساعات، ينشأ بعضها إثر بعض، وعلى هذا تكون شاملة الليل كله باعتبار ظرفا طيبا للعبادات والطاعات، وذلك لخلو النفس فيه من الشواغل التي تشغلها بالنهار.
قوله تعالى: {إن لك في النهار سبحا طويلا}.
السبح: الحركة، المطلقة، المتحررة من القيود.. ومنه يقال الفرس السريع الجري: سابح، وقد أقسم اللّه سبحانه بالسابحات، فقال سبحانه:
{والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا} [1- 3:
النازعات].
ومنه التسبيح، وهو إطلاق اللسان بذكر اللّه.
وهذه الآية بيان لسبب آخر من أسباب دعوة النبىّ مجاهدة نفسه أولا، وتدريبها على ركوب الصعاب من الأمور، حتى يستطيع أن يستقل بحمل القول الثقيل الذي سيبلقى عليه. فإن قيام الليل مع شدّة وطأته لا يكفى وحده لمواجهة الرسالة المكلّف بحملها، وتبليغها إلى الناس، وإنما يقتضيه هذا أن يقوم النهار كلّه، يطوف على الناس، ويلقاهم بها في كل مكان، ويسبح بها إلى كل أفق كما تسبح الطير في السماء.. وأنه إذا كان النبىّ قد جعل الليل لمناجاة ربه، فليجعل النهار لمواجهة الناس.. إنه بمناجاة ربه بالليل يتزود بالزاد الطيب الذي يعينه على رحلة النهار مع الناس ودعوتهم إلى اللّه، فإذا أقبل الليل عاد إلى تلك المناجاة يستروح أرواح الطمأنينة والرضا، ويتخفف من أعباء يومه الثقيل، وما لقى فيه من خلاف عليه، واستخفاف به من أهل السفاهة والجهالة، ليستقبل يوما آخر.. وهكذا.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا} [52: الفرقان].
فهذا السبح الطويل الذي يسبحه النبىّ الكريم في النهار- هو جهاده للكافرين بآيات اللّه التي يتلوها عليهم، ويحاجّهم بها، ويتلقى ما يرمونه من بهت وتكذيب.
يروى أن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه، وقد نصح له بعض أصحابه بأن يرفق بنفسه، وأن يأخذ لها حظها من الراحة والنوم بالليل أو النهار، فأجابه عمر بقوله: إنى إن نمت الليل ضيّعت حق اللّه، وإن نمت النهار ضيعت حق الرعية.. فكيف بالنوم مع هذا أو ذاك؟.
فإذا كان هذا شأن عمر، فرع شجرة الإسلام الطيبة المباركة، فكيف بالشجرة ذاتها؟.
وكيف برسول اللّه، وبالأمر العظيم الذي ندبته السماء له، وأناطت به حمله؟
ذلك أمر لا نوم معه في ليل أو نهار.
قوله تعالى: {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا}.
هو دعوة إلى الرسول الكريم أن يكون دائما مع ذكر اللّه، في الليل أو في النهار، مع نفسه، أو مع الناس، فلا يقطعه هذا السبح الطويل في النهار مع الناس، عن ذكر اللّه أبدا.. إن رسالته كلها هى ذكر اللّه، والتذكير به، فهو حيث كان في ذكر اللّه، وفى تلاوة آياته.
وفى التعبير عن ذكر اللّه بذكر اسمه تعالى، إشارة إلى أن ذكر اسم اللّه، هو الذي يذكّر باللّه، وهو الذي يستحضر به ماله سبحانه من صفات الكمال والجلال التي تشعّ من أسمائه وصفاته.. وفى هذا يقول سبحانه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [180: الأعراف].
ويقول جل شأنه: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} [14- 15: الأعلى].
ويقول سبحانه: {ولذكر الله أكبر} [45: العنكبوت].
ويقول سبحانه: {وأقم الصلاة لذكرى} [14: طه].
وقوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا}.
التبتل: الانقطاع، والبتل القطع.. ومنه البتول، وهى التي انقطعت عن الدنيا وشواغلها بعبادة اللّه.
ومعنى التبتل إلى اللّه، الانقطاع إليه، وتوجيه العقل، والقلب إليه جميعا، دون التفات إلى غيره.
وهذا هو شأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- فكل وجوده للّه.. كلامه وخطوه، وقيامه، وقعوده، ونومه، ويقظته.
وليس التبتل هنا معناه الرهبنة، والانقطاع عن الحياة، وإنما هو العمل للّه وحده في معترك الحياة، بمعنى أن تكون أعمال النبي، وجهاده بالقول، وبالسيف، مرادا بها وجه اللّه وحده، معزولا عن كل مطلب من مطالب الحياة الدنيا، ومجانبا لكل حظ من حظوظ النفس، إلا ما يمسك الأود، ويحفظ الحياة.
قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} أي هو رب المشرق والمغرب، أي هو رب هذا الوجود كله.. فإذا ذكر المؤمن اسم ربه، ذكر بذلك ما للّه سبحانه من سلطان، وأنه مالك الملك، وحافظه، ومدبر كل أموره وأحواله، وهذا هو الذي يعطى الذاكر ثمرة طيبة، إذا هو ذكر ربه بهذه المشاعر الخالصة له سبحانه وتعالى.
وفى التعبير بالمشرق والمغرب، عن الوجود كله، وحصره في هاتين الجهتين، مع أن الجهات أربعة، هى المشرق والمغرب، والشمال، والجنوب- في هذا أمور، منها:
أولا: أن التعبير القرآنى، جاء بلفظ مشرق، ومغرب، ولم يجىء بلفظ شرق وغرب.
وهذا يعنى أنه يشير إلى مشرق الشمس، والقمر، والكواكب، والنجوم، ومغربها.. فهذه العوالم، لها مشرق، ومغرب، وليس لها شمال، وجنوب.
وثانيا: أن المشرق، والمغرب، يشملان- ضمنا- الشمال والجنوب.
حيث أن المشرق يشير إلى جهة الشروق، التي تمتد من أقصى الشمال، إلى نهاية الجنوب.. وكذلك المغرب، فإنه يمتد من طرف الشمال، إلى طرف الجنوب.
وثالثا: أن دورة الأرض، وهى الكوكب الذي نعيش عليه، هى دورة من الغرب إلى الشرق، وليست من الشمال إلى الجنوب، أو من الجنوب إلى الشمال.. ولذا فإن في حركتها تلك لا يظهر إلا وجه المشرق، ووجه المغرب، جامعين كلّ شمال وكل جنوب يقع في محيطهما.
وقوله تعالى: {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}.
أي أنه سبحانه هو المتفرد بالسلطان على الوجود، لا يشاركه أحد، ولهذا كان التعلق به وحده، والتوكل عليه وحده، هو الطريق إلى السلامة، والنجاة.
وفى قوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} إشارة إلى تفويض الأمر للّه وحده، وجعله سبحانه هو الوكيل الذي يكل إليه الإنسان أموره، ويفوّض له التصرف فيها.
ووكالة اللّه سبحانه وتعالى للإنسان، هنا، هى وكالة عن اختيار وطواعية، وعن ثقة في اللّه، وإقرار بالعجز من العبد عن أن يكون له تصريف في أي شيء إلا بما قضى اللّه سبحانه وتعالى له به، وقدّره.. وهذا هو الإيمان في حقيقته، وفى أكمل صوره، وتلك حال المؤمنين حقا في صلتهم باللّه، وفى تعاملهم مع اللّه.
أما غير المؤمنين باللّه، الذين لا يتوكلون عليه، ولا يفوضون أمورهم إليه- فإنهم مقهورون تحت سلطان اللّه، وفى إجراء مقاديره عليهم.. ويستوى في هذا المؤمنون، وغير المؤمنين.. ولكن الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين، هو في أن المؤمنين قد امتلأت قلوبهم طمأنينة ورضا بهذا العقد الذي عقدوه مع ربهم، في تفويض أمورهم إليه، وإلقائها بين يديه، وهذا من شأنه أن يقيمهم على رضا دائم بما يقع لهم، فلا يرون فيما صنعه الوكيل لهم إلا الخير، والإحسان، سواء أكان ذلك مما يسرّ الناس أو يسخطهم، ومما يرونه خيرا أو شرّا.
إن المؤمن الذي فوض للّه أموره، لا يرى عاقبة هذه الأمور إلا أنها الخير، والخير كله.
أما غير المؤمن باللّه، فإنه يحمل وحده هموم نفسه، ويتولّى تصريفها، غير ملتفت إلى أن يدا قوية قادرة حكيمة، رحيمة، هى التي تتصرف فيها بسلطان غالب، ومشيئة سابقة، وقدر مقدور- فهو لهذا في معاناة دائمة، وفى مخاوف ووساوس لا تنقطع، من عواقب أموره.. فإذا جاءه من أمر ما يسره، لم تنطلق من نفسه رنة الفرح، لأن هناك أمورا أخرى أصدرها، وينتظر مواردها عليه ولا يدرى ما يجيئه منها، فلا تقع الفرحة خالصة بما وقع ليده مما يسره.. وإن أصابه ما يسوءه، قتل نفسه حسرة وندما، لأنه فعل كذا، ولم يفعل كذا، وأنه لوسلك بأمره هذا الذي ورد عليه بهذا السوء مسلكا آخر- لما حدث له هذا الذي حدث.. وهكذا يظل يمضغ الحسرة والأسى، حتى آخر لحظة من حياته.. فلا هو لما يسرّ مطمئن، ولا هو لما يسوء واجد عزاء وسلوانا.
قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا}.
هو معطوف على قوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}.
أي اتخذ ربك الذي لا إله إلا هو، وكيلا، تستند إليه في جميع أمورك، بعد أن انقطعت إليه، ووضعت وجودك كله في سبيل مرضاته.. واصبر على ما يأتيك من المشركين من أقوال ضالة مفتراة، وما يرمونك به من تهم باطلة كاذبة.. اصبر على سفاهتهم تلك وقولهم إنك مجنون، وإنك شاعر، أو كاهن، أو مفتر متقوّل على اللّه.. اصبر على كل هذا، فذلك هو من آثار هذا القول الثقيل الذي ألقيناه عليك، وتلك هى المهمة الثقيلة التي انتدبناك لحملها.. وإنه لا يعنيك على حمل هذا العبء الثقيل إلا توكلك على اللّه، واعتصامك بالصبر: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [153: البقرة].
وقوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا}.
أي واهجر المشركين إذا انقطع بينك وبينهم ما ترجو لهم من خير- اهجرهم هجرا جميلا.. أي كن رفيقا بهم، متوددا إليهم، ولا يحملنّك ما يرمونك به من سفاهة وجهل، على بغضتهم، والدعاء عليهم.. بل ارفق بهم، والتمس العذر لهم، فهذا هو شأن العالم مع الجاهل، والطبيب مع المريض.. فإذا انتهى بك الأمر معهم إلى القطيعة، فليكن ذلك بحكمة وبرفق من جهتك، كأن تقول: سلام عليكم.. لى عملى ولكم عملكم.
إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا.. إلى غير ذلك مما علمك اللّه، من الدعوة إليه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هى أحسن.
وقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}.
النعمة: التنعم، والرّفه.. ومنه النعمة، وهى كل ما ينعم به، جسديا، أو نفسيّا، أو روحيّا.
وقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} تهديد مزلزل مفزع لهؤلاء السادة المتنعمين، من مشركى القوم، فإنهم هم الرءوس الفاسدة، العفنة، التي تقود تلك الحملة الضالة التي تؤذى النبي، وتقف لدعوته بالمرصاد.
وأولو النعمة: هم المترفون من أصحاب المال.
والخطاب النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، وهو دعوة إليه من ربه ألا يستشفع عند اللّه لهؤلاء الضالين، وما سيأخذهم اللّه سبحانه وتعالى به من عذاب، في هذه الدنيا، وما أعد لهم في الآخرة من نار جهنم، وعذاب السعير.
وفى هذا التهديد من اللّه سبحانه وتعالى المشركين، بعد دعوة النبي بأن يهجرهم هجرا جميلا، وأن يزايل موقفه من بينهم في رفق- في هذا إشارة إلى أن يترك النبي الأمر للّه، فهو الذي سيتولى حساب هؤلاء المشركين.. فليدع الأمر للّه، ولا يقطع ما بينه وبين قومه من أواصر النسب والقرابة.. فهم قومه، وأولى الناس بعطفه، ومودته.
وهذا أسلوب من أساليب التهديد، التي تبدو في صورة من أمسك بيده سيفا، أو رمحا، ثم رفعه في وجه عدوه، الذي يحتمى في ظل صديق أو شفيع، فهو يقول لهذا الصديق أو الشفيع: ذرنى، أي اتركني، وهذا الشقي، أضربه الضربة القاضية..!
ومن هذا الأسلوب يبدو أن النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو الدّرع الواقية لهؤلاء الضالين من أن ينزل عليهم غضب اللّه، وأن هذا الغضب واقع بهم، إذا هم غاضبوا النبي، وحملوه حملا على أن يخلى مكانه فيهم.
وقد كان! فإنه ما إن بلغ الكتاب أجله لموقف النبي من هؤلاء المشركين، وخروجه من بينهم مهاجرا- حتى تتساقط عليهم سحب العذاب، فيكون لهم في بدر يوم، تقطع فيه رءوس كثيرة من هؤلاء المكذبين أولى النعمة، ثم يكون لهم في يوم الفتح، يوم تذل فيه رقابهم، وتخضع فيه أعناقهم، فلا يرتفع لمشرك بعد هذا اليوم رأس، ولا يشمخ أنف..!!
وفى قوله تعالى: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} إشارة إلى أن العذاب الذي يتهدد هؤلاء المشركين، هو مطلّ عليهم، لا يلبث إلا قليلا حتى يقع عليهم.. وقد كان!! ويجوز أن يكون المراد بالإمهال القليل، هو إشارة إلى إعطاء هؤلاء المشركين فرصة يراجعون أنفسهم، ويرقبون مسيرة الدعوة الإسلامية، وأثرها في القلوب والعقول، فلربما كان لهم من ذلك عبرة وعظة.. وقد كان.
فإن أكثر هؤلاء المشركين قد دخل في الإسلام، وأصبح من القوى العاملة على نصره، والتمكين له.
قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا}.
هذا هو ما سيلقى المشركون يوم القيامة، إذا هم ماتوا على ما هم عليه من شرك.. إنهم سيردون إلى اللّه، وإنه ليس لهم عند اللّه إلا أنكال، وجحيم، وطعام ذو غصة وعذاب أليم.
فهذه صورة من صور العذاب التي يتجرع أهل الضلال كئوسها قطرة قطرة يوم القيامة.. فهل يريد أصحاب الترف والنعيم أن يذوقوا هذا البلاء؟ إنه موجود عندنا، لا نتكلف له جهدا، وإنه ينتظر الضالين المكذبين.
والأنكال، جمع نكل، وهى ضروب من المساءات، التي تساق إلى أهل الضلال يوم القيامة، قبل أن يلقى بهم في نار جهنم، ومنها هذا السوق العنيف الذي يساقون فيه إلى المحشر، وهذا الفضح لهم على رءوس الأشهاد، بما كان منهم من مخاز، وضلالات، ومنها تلك السلاسل التي يقادون بها من أعناقهم، ويسحبون بها إلى النار على وجوههم.
ثم هذا الجحيم أي النار المستعرة، التي يتأجج، ويتسعر وقودها.. ثم هذا الطعام ذو الغصة، وهو الطعام الكريه، الذي لا يجد الطاعم مساغا له، فيزور به، ويضيق حلقه عن ابتلاعه، فيصاب بغصة منه.. كل هذا، هو مما أعده اللّه لأهل الشرك والضلال.
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ} هو بيان للظرف الذي يلقى فيه المشركون هذا النكال، والعذاب الأليم في نار جهنم.
وفى قوله تعالى: {تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ} إشارة إلى ما يحدث للأرض في هذا اليوم من اضطراب، حيث تشقق القبور، ومخرج ما فيها، وحيث تموج بهذه الأمواج المتدافعة من الخلق الذين يساقون إلى المحشر! ورجفة الأرض والجبال، هى من رجفة الخلائق يوم البعث، من فزعهم من أحوال هذا اليوم العظيم، كما يقول سبحانه: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} [87: النمل].
وقوله تعالى: {وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا} إشارة أخرى إلى ما يصيب الجبال من أحداث هذا اليوم وشدته، وأنها تتفتت، وتنهار، وتبدو مثل كثيب من الرمل، المهيل، أي غير المتماسك.


{إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا}.
هو عودة إلى هؤلاء المشركين، بعد تهديدهم بالعذاب في الدنيا، والنكال وعذاب جهنم في الآخرة- عودة إليهم بعرض دعوة الإسلام عليهم من جديد، ليراجعوا أنفسهم، وليطلبوا السلامة من العذاب، القريب، والبعيد، الذي ينتظرهم.
ويكثر في القرآن الكريم، مواجهة المشركين بفرعون، وما كان منه من كفر وضلال، وما أخذه اللّه به من بلاء ونكال.
وقد قلنا في غير موضع، إن هذا الجمع بين المشركين وبين فرعون يشير فيما يشير إليه، إلى ما بين هؤلاء المشركين وبين فرعون من مشابه كثيرة، في العناد، والجهل، والضلال، والاستعلاء على سماع كلمة الحق، والنفور منها.
وقوله تعالى: {رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ} إشارة إلى أن مهمة الرسول هو تبليغهم، وأداء الشهادة عند اللّه فيهم، بما كان منهم من هدى أو ضلال، ومن استجابة له، أو إعراض عنه.. كما يقول سبحانه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [41: النساء].
قوله تعالى: {فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا} هو بيان للمشركين، يرون فيه ما كان من فرعون، وما حل به.. لقد عصى فرعون الرسول، وهو موسى، فأخذه اللّه تعالى أخذا وبيلا، أي أخذا مخزيا، مهينا، مهلكا.. فهل يعصى هؤلاء المشركون الرسول الذي أرسله اللّه إليهم؟
إنهم إن يفعلوا فعل فرعون، فسوف يلقون ما لقى فرعون.. إنهم ليسوا أشدّ من فرعون بأسا، ولا أقوى منه قوة، ولا أعز نفرا، ولا أكثر قبيلا.
قوله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا} أي فكيف تدفعون عن أنفسكم عذاب هذا اليوم الذي يجعل الولدان شيبا، إن كفرتم ولم تؤمنوا باللّه، ولم تستجيبوا لما يدعوكم إليه الرسول؟ كيف تدفعون عن أنفسكم هذا العذاب؟ أأنتم أقوى من فرعون قوة وأشد بأسا وأكثر نفرا؟ لقد أخذ فرعون بكفره، وستؤخذون أنتم بكفركم، إن كفرتم، وأمسكتم بهذا الكفر.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كَفَرْتُمْ} احتراس، يراد به قيد هذا العذاب الذي يتهددهم، وأنه رهن بما ينكشف عنه موقفهم من النبي.. فهم إلى هذه اللحظة في سعة من أمرهم، مادام النبي فيهم، وما داموا في الحياة، لم تطو صحف أعمالهم بعد بالموت.
وفى هذا إغراء لهؤلاء المشركين بالإيمان، وإفساح الطريق لهم إليه.
وقد دخل كثير منهم في دين اللّه، وأصبحوا مؤمنين،. وهذا هو بعض الحكمة في قوله تعالى: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}.
وقوله تعالى قبل ذلك: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا}.
وقوله تعالى: {السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} هو وصف لهذا اليوم الذي تشيب من هوله الولدان.. وكما أن الأرض ترجف منه، والجبال تنهال، وتصبح كثبانا مهيلة من الرمال- كذلك السماء تنفطر به، أي تتشقق به، أي بسببه.
فالباء في {به}.
للسببية وجاء الخبر عن السماء مذكرا {مُنْفَطِرٌ} ولم يقل منفطرت للإشارة إلى بنائها، أو سقفها، الذي يقع عليه التشقق والانفطار.. أي منفطر به بناؤها.
وقوله تعالى: {كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} أي كان وعد اللّه تعالى واقعا لا محالة.. أي أن هذا الوعد ليس مجرد قول، بل هو قول، بتحول إلى فعل واقع، ومشاهد محسوس.
وقوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ.. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا}.
هذه الآيات التي تحمل النذر، والبشريات معا، هى تذكرة، يجد فيها أولو العقول السليمة، تجاوبا مع الفطرة، فيذكرون بها الميثاق الذي أخذه اللّه عليهم وهم في ظهور آبائهم، من الإيمان به، والإقرار بربوبيته ووحدانيته، كما يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى!!} [174: الأعراف].
وقوله تعالى: {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا} إشارة إلى أن الطريق إلى اللّه مفتوح لكل من يريد الاتجاه إليه، فليس هناك من يحول بين الإنسان وبين اتصاله بربه، كما أنه ليس هناك من يحمل الإنسان حملا على أخذ هذا الطريق.. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [29: الكهف].


{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ..} الآية بهذه الآية المباركة تختم السورة الكريمة، فيلتقى ختامها مع بدئها، الذي كان دعوة من اللّه سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم بقيام الليل إلا قليلا، أو نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف، وقد امتثل النبي أمر ربه، فقام من الليل ما شاء اللّه أن يقوم، في اطار هذه الحدود التي حددها اللّه سبحانه وتعالى له، فقام أحيانا الليل كله، وقام أحيانا الليل كله إلا قليلا منه، وقام أحيانا أخرى نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف.
وفى هذا الختام، يتلّقى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، هذا الخبر المسعد له، وذلك بأن اللّه سبحانه قد تقبل منه قيامه، وأنه سبحانه سيجزيه على طاعته، وامتثاله أمر ربه- بأن يخفف عنه هذا التكليف الشاق عليه، وعلى تلك الجماعة من المؤمنين، التي تأسّت بالنبي، وقامت الليل مثله.
فقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} ليس المراد منه الإخبار بعلم اللّه، وإنما المراد بهذا الخبر ما يترتب على وقوعه، وهو الجزاء الذي يستحقه المخبر عنه، بسبب وقوع ما أخبر به عنه.
وقوله تعالى: {أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ}.
هو بيان شارح لما أمره اللّه سبحانه وتعالى به من قيام الليل في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ف قوله تعالى: {أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} أي أقرب إلى ثلثى الليل- يدخل فيه الليل كله إلا قليلا.، كما يدخل فيه مازاد على النصف.. فإن أدنى من ثلثى الليل، يحتمل طرفى الزيادة والنقص من الثلثين، فما زاد عن الثلثين قليلا، يعتبر أدنى منهما من جهة، كما أن ما نقص عنهما قليلا، يعد أدنى منهما من جهة أخرى.
وأما قوله تعالى {وَنِصْفَهُ} فهو يقابل ما جاء في قوله: {نِصْفَهُ} المذكور في أول السورة.
وأما قوله تعالى: {وَثُلُثَهُ} فهو يقابل قوله تعالى: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} أي انقص من النصف قليلا.
وقوله تعالى: {وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} هو معطوف على فاعل:
{تَقُومُ} أي تقوم أنت، ويقوم طائفة من الذين معك، أي من الذين آمنوا وأصبحوا معك، لا عليك.
وفى هذا ما يشير إلى أن قيام الليل لم يكن فرضا على المؤمنين، ولا واجبا، وإنما كان الذين قاموا الليل مع النبي جماعة من المؤمنين، لا كل المؤمنين، تأسّوا بالنبي، دون أن يدعوا إلى هذا القيام، وإلا لو كان فرضا الزم المسلمين جميعا، ولكان الذين لم يقوموا الليل، آمنين، غير مؤمنين، الأمر الذي لم تشر إليه الآيات، من قريب أو بعيد:
أما النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- فقد كان قيام الليل في أول رسالته- فرضا عليه وحده، دون المؤمنين، لأنه مكلف بمهمة لم يكلّف بها أحد غيره، وإن هذه المهمة شاقة ثقيلة تحتاج إلى دربة ومران على احتمال الصعاب والمشقات، كما أنها تحتاج إلى رصيد كبير من الزاد الذي يتزود به من قيامه الليل، وترتيله القرآن.
ثم إنه بعد أن بدأت الدعوة الإسلامية، تأخذ طريقها العملي، ويواجه بها النبي قومه- رفع اللّه سبحانه وتعالى عن النبي عبء قيام الليل، فجعل ذلك أمرا على سبيل الندب والاستحباب، وفى أي وقت وقدر من الليل، كما يقول سبحانه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} [79: الإسراء].
قيل إنه كان بين نزول أول المزمل وما حملت إلى النبي من أمر بقيام الليل، وبين هذه الآية الأخيرة من السورة، التي جاء فيها حكم التخفيف بقراءة ما تيسر من القرآن- كان بين نزول أول السورة وآخرها عشرة أشهر، وقيل سنة، كما يروى ذلك عن السيدة عائشة رضى اللّه عنها، وقيل إنه كان بينهما عشر سنين!!.
ونحن نميل إلى الرأى الثاني وهو القول بعشر سنين.
وذلك لأمور:
أولها: أن مدة عشرة أشهر أو سنة، غير كافية في التدريب على حمل هذا العبء الثقيل الذي سيحمله النبي، في تبليغ الدعوة الإسلامية، وأن ما ينتظر النبي في الدور المدني من اتصال الحرب بينه وبين المشركين واليهود، لا تدع له فرصة لسهر الليل الطويل.. على خلاف ما كان عليه الأمر في مكة، حيث كان لقاء النبي مع آيات ربه بالليل، هو الزاد الذي يعيش عليه خلال تلك المدة.
وثانيها: أن المواجهة بين النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وبين المشركين في مكة، كانت مواجهة كلامية لم تخرج إلى حد القتال.. فالدور المكي من الدعوة كان كله حربا من جانب واحد، هو جانب قريش، لم يؤذن المسلمين بعد فيه بالقتال، لأنهم لم يكونوا يملكون في مكة القدرة على التجمع، والتحرك، كما كانوا لا يملكون وسائل القتال وعدده.
وثالثها: في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في هذا إشارة إلى أن هذه الآية نزلت والمسلمون كانوا قد أوشكوا أن يكونوا قوة مقاتلة تلتقى مع المشركين في ميادين القتال.. وأن هؤلاء الذين كانوا يقومون الليل تأسيا بالنبي، كانوا يشاركون في هذه المعارك، الأمر الذي يجعل من قيام الليل عبئا آخر إلى أعباء الحرب، فكان التخفيف عن النبي، وعن المتأسّين به في قيام الليل، أمرا مطلوبا في تلك الحال- أي حال التحام المسلمين مع المشركين واليهود في القتال، وذلك في العهد المدني قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} أي يضبط زمن كل منهما، في تكوير أحدهما على الآخر، فيطول هذا، ويقصر ذاك.. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [3: الطلاق] أي حسابا وتقديرا.
قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي علم اللّه سبحانه وتعالى أنكم لن تحصوا أوصاف الثناء عليه سبحانه وتعالى مهما طال قيامكم بالليل.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم في قوله، مناجيا ربّه: «سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا الذي ذهبنا إليه، هو المعنى الذي نستريح له.. ولم نجد أحدا من المفسرين قد ذهب إلى هذا الرأى، وإنما كانت آراؤهم كلها تدور حول معنى واحد، هو أن اللّه سبحانه علم أنكم لن تقدروا على إحصاء الليل وتحديد مواقيته، ومعرفة متى يكون ثلث الليل أو نصفه، أو ثلثاه؟.. أما النهار فإنه من الممكن ضبط أجزائه، ولهذا عاد الضمير في {تحصوه} على الليل وحده دون أن يعود عليه هو والنهار.. هكذا يقولون!! وهذا المعنى الذي يذهب إلى معنى العجز عن إحصاء أجزاء الليل- وإن كان له مفهوم وقت نزول القرآن، حيث لم تكن هناك المقاييس الزمنية المعروفة اليوم، كالساعة ونحوها، فإن هذا المفهوم الآن غير واقع.. والقرآن الكريم حكم قاض بالحق المطلق، وشاهد ناطق بالصدق المصفّى، أبد الدهر.
{لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
ثم إن إحصاه الليل، وتقدير وقته، من الممكن أن يتحقق حتى في زمن نزول هذه الآية، وذلك برصد النجوم، وتحديد منازلها، وقد كان العرب على علم بهذا، وأنّ نظرة من أحدهم إلى مواقع النجوم في السماء، كان يعرف بها أين هو من الليل؟ وماذا ذهب منه؟ وماذا بقي..؟
ومن إعجاز القرآن الكريم أنه يتسع لمفاهيم الحياة كلها في كل زمان ومكان.. وعلى هذا يمكن أن بتوارد على قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أكثر من مفهوم، وكل مفهوم، منها يسدّ حاجة الناس في عصرهم، وما بلغته مداركهم من العلم.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} خبرا عن اللّه سبحانه وتعالى، ويكون قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} خبرا ثانيا أي واللّه يقدر الليل والنهار، واللّه علم أن لن تحصوه أي تبلغوا حق الثناء عليه.. ويجوز أن يكون قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} صلة لموصول محذوف، هو صفة للّه، بمعنى واللّه المقدر لليل والنهار.. ويكون قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} خبرا للفظ الجلالة.. بمعنى: واللّه المقدر لليل والنهار علم أن لن تحصوا الثناء عليه، مهما امتد الزمن بكم، وطال الليل أم قصر.
وقوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ}.
الفاء السببية، أو التفريع.. أي علم اللّه أنكم لن تحصوا الثناء عليه {فَتابَ عَلَيْكُمْ} أي فقبل منكم هذا التقصير، قبول التائب من ذنبه، فيرفع عنه وزره، ويغسل ذنوبه كما يغسل الثوب مما علق به.
وفى التعبير عن رفع الحرج عن المؤمنين في قيام الليل، على ما جاء في قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} في التعبير عن هذا بالتوبة، مع أن هؤلاء المؤمنين لم يأتوا ذنبا، إن كان منهم تقصير في قيام الليل، لأن قيام الليل لم يكن فرضا عليهم، وإنما كان مندوبا ومستحبّا، اقتداء بالنبي، وتأسيّا به، وترسما لخطاه- في التعبير عن هذا بالتوبة، إشارة إلى لطف اللّه بالمؤمنين، وإكرامه لهم، وأنهم- وإن كانوا يأتون أمرا لهم فيه سعة- فإن إلزام أنفسهم به، يقتضيهم أن يؤدوه كاملا على الوجه المرسوم له.. تماما كأفعال المتطوع، في العبادات من صوم، وزكاة وكالنذر ونحوه.. فإن المؤمن إذا ألزم نفسه شيئا من هذا، وجب عليه أن يؤديه كاملا، مستوفيا جميع أركانه، آخذا كل صفاته.. إنه عقد عقده الإنسان مع ربه، وأن أي خلل في أركان هذا العقد، هو نقض له.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [1- المائدة] ومن جهة أخرى.. فإن التهاون، والاستخفاف بما يأتيه المؤمن-
متطوعا- من عبادات، وإخلاء نفسه من شعور الجدّ فيها، والاحتفاء بها، بوصف أنه إنما يأتى به متطوعا، وأنه لا حرج عليه في أن يؤديه على أية صورة- إن هذا من شأنه أن يذهب بجلال العبادة وقد سيتها، ويجعلها أشبه باللهو واللعب.. وأنه إذا كان المؤمن شأن في أداء فرائض اللّه، فليكن هذا شأنه في جميع ما يتعبد للّه سبحانه وتعالى به، من فرائض وواجبات ونوافل.
فهو في جميع أحواله، في مقام التعبد للّه، يستوى في هذا ما كان فرضا، أو واجبا، أو تطوعا.. فإن العبادة هى العبادة، والمعبود هو المعبود، والعابد هو العابد.
فالفرائض، والواجبات، والنوافل، كلها في مقام التعبد للّه، على درجة واحدة، فيما ينبغى لها من جلال وتوقير، لأنها جميعها موجهة إلى اللّه سبحانه وتعالى.. واللّه سبحانه وتعالى طيّب لا يقبل إلا طيبا.
ففى قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، قد أعفى المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموه أنفسهم، وقد أعنتهم الوفاء به ورهقهم الاستمرار عليه.. فتاب اللّه عليهم، وأحلّهم من هذا الإلزام، وتجاوز عن تقصيرهم، توخرج بهم من الضيق إلى السعة، لطفا منه ورحمة، وإحسانا.
وقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}.
هو تفريع على قوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ}.
أي ولأن اللّه قد تاب عليكم، فاقرءوا ما تيسر من القرآن، دون أن يكون ذلك مقيدا بقدر محدود من الليل، أو النهار، حتى تؤدوا ذلك القدر اليسير من التلاوة على الوجه الأكمل، وفى حال حضور جسدى، ونفسى وعقلى.
قيل إن قراءة ما تيسر من القرآن، يجزىء فيها قراءة مائة آية، وقيل أقل من هذا، إلى عشر آيات.. وفى هذا اليسر، ما يمكّن للمؤمنين- كما قلنا- من لقاء اللّه سبحانه وتعالى على ذكره، لقاء واعيا، يقظا، تنشط له أعضاء الإنسان كلها، ويحضره وجوده جميعه، في غير تكاسل، أو فتور، أو غفلة.. وهذا يعنى أن العبادة ليست كيلا يكال بكمّه، ويقدّر بكثرته.. وإنما هى صلة روحية باللّه، تكفى في تحقيقها شرارة منطلقة من قلب سليم، فيتوهج بنور الحق، ويتصل بنور اللّه، الذي هو نور السموات والأرض.
وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
هذا بيان للسبب الذي من أجله أحلّ اللّه المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموا به أنفسهم، وهو أنهم لن يستطيعوا أن يقوا بهذا الالتزام على وجهه، لأنه سيكون منهم من يمرض، ويكون منهم من يضرب في الأرض ابتغاء الرزق، ويكون منهم من يقاتل في سبيل اللّه.. وهذه كلّها معوقات تعوق عن أداء هذا الإلزام على وجهه.. وهذا من شأنه أن يوقع المقصّر منهم- بعذر من هذه الأعذار- في حرج، ويقيمه مقاما قلقا مضطربا، ويوقع في نفسه كثيرا من مشاعر الأسى والحسرة.
وهنا سؤال، هو:
إذا كان قيام الليل بالنسبة لمن قاموه من جماعة المؤمنين، هو على سبيل التطوع، فكيف يجد المؤمن حرجا في أنه لم يقم الليل، لمرض، مثلا؟ أليس هذا عذرا، قد يسقط عنه بعض الفرائض، والواجبات، فكيف بالتطوع، والنافلة؟
ونقول- واللّه أعلم- إن ذلك وإن كان صحيحا، فإنه لا يخلى نفس المؤمن الحريص على دينه من الحسرة والألم أن فاته هذا الخير، وأقعده المرض عن اللحاق بإخوانه الذين حصّلوا هذا الخير.. تماما كمن يفطر رمضان لمرض، أو شيخوخة، وكمن يقعده العجز عن الجهاد في سبيل اللّه.. إنه وإن كان قد خرج من باب الحرج، فإنه لم يدخل في باب العابدين المجاهدين..!
ولهذا كان من رحمة اللّه، ولطفه، وإحسانه بالمؤمنين- أن يدعوهم جميعا إلى ساحة رضاه، وأن يمد لهم موائد الخير ليصيبوا منها جميعا، وليأخذ كلّ قدر طاقته، سواء أكان مريضا، أو ضاربا في الأرض ابتغاء الرزق، أو مجاهدا في سبيل اللّه.. فهذا القدر اليسير من تلاوة القرآن، يدخل المسلمين جميعا في مقام الإحسان، ويتيح لهم جميعا أن يشاركوا في التأسّى بالنبي في قيام الليل.
وبهذا لا ينفرد ذوو الهمم العالية من المؤمنين الذين أشار إليهم اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} لا ينفرد هؤلاء وحدهم بالتأسى بالنبي في هذا المقام، وإن انفردوا بالمنزلة العليا، وأخذوا مكان الصف الأول فيه.
ومن جهة أخرى، فإن المخاطبين في قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} المخاطبون هنا- واللّه أعلم- هم جماعة من المؤمنين بأعيانهم، وهم أولئك الذين قاموا مع النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما قام من الليل، أدنى من ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.
فهذه الجماعة، هى التي جاءت الآية الكريمة هنا لتحلّها من هذا الالتزام الذي ألزمت به نفسها، حتى لقد تورمت أقدام كثير منهم، وكاد يؤدى بهم ذلك إلى التلف، وهم على إصرار بأن يمضوا في طريقهم إلى غايته، مهما يصبهم من عناء ورهق.
فهؤلاء الجماعة من المؤمنين، لن يظلوا على تلك الحال التي هم عليها.
بل إنه ستعرض لهم أحوال أخرى، تلجئهم إلجاء إلى عدم الوفاء بهذا الالتزام، كالمرض، أو السفر في تجارة ونحوها، أو القتال في سبيل اللّه، الذي سيشهده بعضهم إن لم يكونوا شهدوه فعلا.. ثم كان هذا التخفيف عاما لجميع المؤمنين، حيث يتاح لهم جميعا أن يأخذوا بحظهم من قيام الليل، ولو لحظات منه.
وفى ذكر القتال في سبيل اللّه هنا، نبأ من أنباء الغيب، بما سيلقى المؤمنون على طريق الإيمان من جهاد في سبيل اللّه، ومن قتال بينهم وبين المحادّين للّه، والصادّين عن سبيل اللّه.. وذلك على أن الآية مكية، كما يقول بذلك بعض العلماء.
وقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ} هو توكيد لقوله تعالى: {فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وفى هذا تطمين لقلوب المؤمنين الذين دعتهم الآية الكريمة إلى التحول عن هذا الموقف الذي ألزموه أنفسهم، من قيام الليل.
فهو أمر يكاد يكون ملزما بالتخفيف. فما أبرّ اللّه بعباده، وما أوسع رحمته لهم، فسبحانه، سبحانه، من ربّ برّ رحيم..!!
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}.
أي وحسبكم مع قراءة ما تيسر من القرآن، وقيام ما تيسر لكم من الليل- حسبكم- مع هذا- أداء ما افترض اللّه عليكم من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وقوله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} هو دعوة إلى التصدق والإنفاق تطوعا، دون أن يقدّر ذلك بقدر معين، فهو أمر موكول إلى الإنسان، وما تسمح به نفسه.. إنه أشبه بقراءة ما تيسر من القرآن، الذي يتسع لآيات معدودات، كما يتسع للقرآن كله.. فمن تصدق بالقليل، فقد أقرض اللّه قرضا حسنا.. {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وإن كان لكل محسن جزاء ما قدم من إحسان، كلّ على قدر ما أعطى.
والقرض الحسن، هو الذي لا منّ فيه ولا أذّى، والذي يكون من طيبات ما كسب الإنسان، كما يقول سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ} [267: البقرة] وكما يقول سبحانه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [267: البقرة].
وقوله تعالى: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} هو تعقيب على الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وإقراض اللّه قرضا حسنا.. فهذه كلّها طاعات، وقربات يتقرب بها إلى اللّه، وهى كلّها خير مدخر لصاحبه عند اللّه، يجده عند الحاجة إليه يوم الحساب والجزاء- خيرا من هذا الخير، قدرا، وأعظم أجرا.
قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أي ومع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقراض اللّه قرضا حسنا، فإن العبد لا يزال مقصرا في حق ربه، مهما بلغ من طاعة، ومهما قدم من خير- فإن ذلك كله لا يفى ببعض نعم اللّه على الإنسان.. فليستشعر المؤمن هذا أبدا، وليكن على علم بأنه مقصر في حق ربه، وأنه لا ملجأ له لتلافى هذا النقص، إلا طلب المغفرة، والرحمة من ربه.. واللّه سبحانه {غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر للمستغفر، لأنه رحيم يرحم من طلب الرحمة لنفسه، وسعى إلى إقالتها من عثراتها.